السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته
الخشـوع
وأشهد أن لا إله إلا الله... جعل الصلاة صفة جوهرية من صفات المتقين، تتلو الإيمان بالغيب فقال في الكتاب المبين ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [البقرة: 2-3] ، وقد بدأ القرآن وختم بها أوصاف المؤمنين المفلحين {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ{1} الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ{2} وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ{3} وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ{4} وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ{5} إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ{6} فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ{7} وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ{8} وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ{9} [المؤمنون].وأشهد أن سيدنا محمداً... جعل من الصلاة الدليلَ الأول على التزام عقد الإيمان، والشعار الفاصل بين المسلم والكافر فقال: "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة". وذكر الصلاة يوماً فقال: "من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف".قال العلماء في توجيه هذا الحديث: فمن شغله عن الصلاة ماله فهو مع قارون، ومن شغله عنها ملكه فهو مع فرعون، ومن شغله عنها رياسته ووزارته فهو مع هامان، ومن شغله عنها تجارته فهو مع أبي بن خلف، ومن حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة.أما بعد:إن الناس يشتكون منكم أيها المصلون، وشكاية الناس تتمحور حول عدم ظهور آثار هذه العبادة العظيمة – الصلاة – في حياتكم، وسلوككم العملي، وقبل أن أطرح الشكاوة عليكم أن تعلموا أن هذه الشكايات إنما هي خواطر أظن أنها تدور في أذهان البعض وليس المقصود بها أحد بعينه.
يقولون: ما فائدة صلاة المصلي إذا كان لا يزال يأكل أوال الناس بالباطل، فيأخذ الربا على دينه، ويتمسك بالدار إذا كان مستأجراً، وما نفع الصلاة إذا كان صاحبها ما يزال على حاله من الكذب والغش والخداع، وما فائدة الصلاة إذا كان سلوك أفراد أسرته من الزوجة والبنات على غير ما يرضي الله عزَّ وجل من حيث سترهم وخروجهم في الشارع، ما نفع الصلاة إذا كان صاحبها ظلماً قاسياً على أهله وعياله في غير وجه حق، وما فائدة الصلاة إذا كانت الزوجة لا تطيع زوجها، أو إذا كان الزوج لا يرحم زوجته فيضيق عليها ويمنعها من زيارة أهلها وأرحامها. لماذا يصلي المصلي وهو قد وزع أمواله على صبيانه وحرم بناته، ما فائدة الصلاة لجار يؤذي جاره.
وهناك سؤالات عديدة تدور في مجملها على عدم تطابق تقوى العبد في صلاته وخارجها، فهو أتقى الناس إثناء صلاته، فإذا خرج رجع إلى ما كان عليه من عاداته السيئة وأفعاله الشريرة وتصرفاته البغيضة، وسلوكه البشع، رجع إلى كذبه وغشه، عاد إلى نهمه على الدنيا وتكالبه عليها، رجع إلى قسوته وظلمه، عاد إلى اعتدائه على حقوق الآخرين، وكل إنسان يعرف نفسه، يقول الله تبارك وتعالى: {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ{14} وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ{15} [القيامة]. فاستحيوا من الله أيها المصلون، وراقبوا الله عزَّ وجل، واجعلوا أعمالكم مطابقة لمرضاته في صلاتكم وفي حياتكم، اجعلوا سلوككم موافقاً لشرع الله داخل المسجد وخارجه.
عباد الله اعلموا أن العبادة إذا كانت ناقصة، ولم تؤد على الوجه الأكمل، فإن مؤديها سيختلف في سلوكه بين المسجد والسوق، ويتباين تصرفه أثناء الصلاة وخارجها. أتدرون ما هو السبب في نقصان هذه العبادة؟ أتعلمون ما الذي أدى ضعف أخلاق المصلين، وانحراف سلوكهم عن النهج القويم مع أنهم يصلون؟. اسمعوا الجواب.
إن الناس في أدائهم للصلاة على قسمين: قسم يؤديها بتمامها ظاهرة وباطنة. وصنف يتظاهرون بالصلاة دون أن يدخل الإيمان إلى قلوبهم، ودون أن تفتّح للخير صدورهم. هؤلاء وصفهم الله بقوله: {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً اً} [النساء: 142] فهم المنافقون، وهم أحق بوعيد الله {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ{4} الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ{5} الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ{6} وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ{7} [الماعون]. فهؤلاء لا يعدون من المصلين إلا بالاسم، لأن إيمانهم بالله وبما فرض عليهم، لم يباشر قلوبهم، فلذلك لم يظهر الخير في سلوكهم.
وهناك صنف من الناس يحافظون على صلواتهم، ويؤدونها بشروطها وأركانها الظاهرة بقيامها وركوعها وسجودها، غير أنهم جهلوا حقيقة الصلاة، وما المراد من تأديتها، فظنوها مجرد حركات وألفاظ، فأدوها كما يؤدون أي واجب وظيفي عليهم، لذلك لا غرابة أن ينكر الناس أفعالهم ويرون انحرافاً في سلوكهم، والسبب في ذلك أن صلاتهم جثة بلا روح، وحركات جسم بلا حضور عقل ولا خشوع قلب، إنهم تحققوا بصفة من صفات المؤمنين المفلحين المتعلقة بالصلاة دون غيرها، وهذه الصفة هي آخر ما ذكر الله من صفات المفلحين إذ يقول: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9] تخلقوا بهذه الصفة ولم يتحققوا بأول صفات المفلحين {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2]. والخشوع هذا هو الذي سيجعل تصرفات المصلين موافقة لما يرضي الله سبحانه وتعالى، والصلاة الخاشعة هي التي يريدها الإسلام ويطلبها من أتباعه، وليست الصلاة المطلوبة مجرد أقوال يلوكها اللسان، وحركات تؤديها الجوارح، بلا تدبر من عقل ولا خشوع من قلب، ليست الصلاة المطلوبة هي تلك التي ينقرها صاحبها نقر الديكة، ويخطفها خطف الغراب. ويلتفت فيها التفات الثعلب، لا.
إن الصلاة المطلوبة هي تلك التي تأخذ حقها من أداء الأركان والواجبات والسنن مع التأمل والخشية واستحضار عظمة المعبود جل جلاله هذه الصلاة المؤداة بالخشوع هي التي كانت قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم. والتي كان يحن إليها ويتلهف عليها، ويقول لبلال: أرحنا بها يا بلال، وأنت يا أخي تلاحظ أن هناك فارقاً بين من يقول: أرحنا بها وأرحنا منها. أرحنا منها يريد أداءها بجسمه دون أن يكون لعقله وقلبه نصيب، يريد التخلص منها وكأنها جبل ثقيل على ظهره يحاول إزاحته عن كاهله، أما القائل أرحنا بها، فهو يريدها بحضور للقلب وسكون من الجوارح، واستحضار لعظمة الله سبحانه واستحضار هيبته، وأنه لا يعبد ولا يقصد سواه جل وعلا. هذه هي الصلاة المطلوبة التي يقول عنها الله جل جلاله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت:45].
فإذا رمت صلاة تجنبك المعاصي، فعليك بصلاة مع خشوع، وإذا أديت صلاتك بخشوع فإنها ستنهاك عن كل ما يغضب الله، وستظهر آثارها الطيبة في حياتك العملية وسلوكك التطبيقي.
أحبتي في الله: قد يقول قائل، ويتساءل سائل: - وقد سئلت عن هذا بالفعل – كيف يكون الخشوع في الصلاة؟ فأجبته وأكرر: بأن الخشوع حالة يستشعر فيها المصلي بأنه يعبد الله حق عبادته، لا يشغله شاغل، ولا يلهيه لاه، كل همه أن يكون في حالة حضور مع ربه. وهذه الحالة تذاق بالأعمال ولا تنال بالأقوال، تطبيقية أكثر منها قولية.
ولكن هناك أسباباً تسهل حضور القلب مع الله عزَّ وجل في الصلاة، إذا حفظتها وطبقتها عسى أن تكون من الخاشعين.
من هذه الأسباب، أن تهيأ نفسك للمجيء إلى الصلاة، وأن تستعد لها استعداداً تاماً قبل دخول الوقت، فإذا سمعت النداء بادرت إلى الصلاة، لأن أفضل الأعمال كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الصلاة على وقتها".
ومن أسباب الخشوع: أن تحافظ على السنن القبلية، فإنها ممهدة لصلاة الفرض، وطاردة للشيطان ووسوسته، إذ أن الانتقال من الغفلة إلى الذكر مباشرة صعب، فمشاغل الدنيا وهمومها ووساوس الشيطان لا تذهب بسهولة وزمن يسير، فبدلاً من أن يكون هذا على حساب الفريضة ليكن على حساب السنة، ولتكن النافلة كنقطة تحول بين غفلة الدنيا وحضور القلب في صلاة الفريضة.
ومن الأمور المساعدة على الخشوع في الصلاة أن تتدبر ما تقرأ، وأن تعي ما تقول. فأنت تقول: الله أكبر، مطلقة غير مقيدة. الله أكبر من كل شيء، الله أكبر من شغلك الشاغل، الله أكبر من دنياك المفتون بها، الله أكبر من تجارتك الفانية، الله أكبر من بضاعتك الزائلة، ولا أظن أن أحداً فكّر في معنى التكبير في الصلاة ثم شرد فكره إلى ما هو أدنى، والتكبير هذا يتكرر معك في كل انتقالة من انتقالات الصلاة بحيث إذا عملت أو نسيت تذكرت، فاجعل فهمك لمعنى التكبير موافقاً لقولك.
ثم تدبر معنى القرآن، الذي تقرأ، وخاصة سورة الفاتحة، واحذر أن تكون قراءتك لها روتينياً يتحرك بها لسانك دون أن تتوقف عند معانيها، فأنت تقول: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ} وفي هذا تغذية للشعور بنعم الله عليك وتعرفٌ على إحسانه. وفي قولك: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} تقوية لشعور عظمة الله وعدله، وفي قولك: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} شعور بالحاجة إلى الصلة بالله وإلى عونه، وفي قولك: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} تقوية للشعور بالحاجة إلى هداية الله، وبالحاجة إلى الاستقامة والثبات، وفي قولك: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} شعور بضرورة الاقتداء بالمثل الصالحة. وفي قولك: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} شعور بضرورة اجتناب سبل الضلال.
ولِم لا تخشع إذا فكرت فيما تقرأ، وعلمت أن الله عزَّ وجل يقول حادث القدسي: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين، ولعبدي ماسأل فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله عزَّ وجل: حمدني عبدي. فإذا قال: {الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ} قال الله عزَّ وجل: أثنى علّ عبدي. فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله: مجدني عبدي. فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل. كيف لا يحضر قلبك مع الله وأنت تقف بين يديه وهو يقابل مناجاتك بالإقبال والقبول.
ومن الأمور التي تعين على حضور القلب وعدم شرود الذهن: تركيز النظر إلى مواضع محددة، دون جعل العين تدور وتسبح يميناً وشمالاً فإذا كنت قائماً فانظر إلى موضع سجودك، فإذا ركعت فانظر إلى موضع سجودك، فإذا ركعت فانظر إلى رؤوس أصابع قدميك، وإذا سجدت فلا تحول بصرك عن مكانه، فإذا جلست فانظر إلى حجرك.
ومن الأمور التي تعين على الخشوع، تدبر معاني القرآن. ومما يساعدك على تدبر القرآن أن تقرأ في كل ركعة وفي كل صلاة آيات جديدة من القرآن ولا تخصص لنفسك آيات محددة أو سوراً معينة تجعلها في كل صلواتك. إذ أن البعض لا يقرأ سوى سورة الكوثر وسورة الإخلاص يكررهما في كل صلاة. فمن أين سيأتيه الخشوع وكيف سيحضر قلبه مع الله وهو يردد هذه السورة ترديداً روتينياً. وآخر يخصص سورة الضحى والانشراح، فإذا أردت أن يحضر قلبك مع الله فاقرأ في كل صلاة شيئاً جديداً، وهذا ما يجعلك تتفكر فيما تقرأ، وتتدبر فيما تقرأ، وتتدبر ما تتلو.
ونختم حديثنا بالتعرف على صفحة لامعة من صفحات تاريخنا المجيد، وقد سطرت فيها صورة من أروع صور الخشوع والحضور والإقبال على الله ونسيان الدنيا وما يدور فيها أثناء الصلاة. فلقد سجل لنا التاريخ أعظم قصة في الخشوع والغياب عن الجسد، حالة المناجاة لله رب العالمين، فقد ورد أن عروة بن الزبير، لما خرج برجله الآكله "السرطان" وكان في زيارة الوليد بن عبد الملك، فبعث إليه بالأطباء، فأجمع رأيهم على إن لم ينشروها قتلته، فقال: شأنكم بها. افعلوا ما شئتم. قالوا: ولكن الألم لا يطاق ولا يتصور، قطع للحم ونشر للعظم، إذا وقفت في الصلاة فشأنكم بها أي فاقطعوها. ووقف عروة في صلاته يناجي ربه وخشع قلبه، وغاب عن الدنيا وما فيها. فبدأ الأطباء العمل وأجروا له العملية الجراحية وهو واقف في صلاته ما حرك عضواً عن عضو.
بمثل هذا الخشوع كانوا رجالاً، بمثل هذا الحضور مع الله في الصلاة ابتعدوا عن المحرمات. وأن لنا فيهم أسوة حسنة إن أدرنا الابتعاد عن الفحشاء والمنكر. ولنكن على صلواتنا محافظين أو لنكن فيها خاشعين.
أتدرون ما هو السر في فشل الناس في حياتهم: إنه عدم استيقاظهم على صلاة الفجر "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام..." إن الشيطان قد استولى على تفكيرهم وراح يزين لهم سوء أعمالهم ويجعلهم في اضطراب.
و الله ولي التوفيق
اللهم تقبل منا صلاتنا و أغفر لنا انك انت الغفوورالرحيم
الدكتور الشيخ علاء الدين الزعتري